ميشيل عفلق

في سبيل البعث - الجزء الأول


الصلة بين العروبة والحركة الإنقلابية



صلتنا بالماضي : هناك نفر يكاد يفهم من البعث العربي الذي هو حركة إنقلابية متجهة بقوة وعنف نحو المستقبل، انها حركة فاقدة الصلة بالماضي، وانها تعتبر أن كل التفاتة إليه تضيع جهداً يجب ان يبذل في بناء المستقبل... إن في هذا تشويهاً لفكرة البعث العربي التي تميز بين الماضي كروح والماضي كشكل.

كان يوجه للبعث العربي منذ نشوئه تهمة الرجعية، فقد فهم الكثيرون من البعث أنه إرجاع للماضي. فهموا من تعلقنا بماضينا وشخصيتنا أننا رجعيون ومحافظون، ثم انقلبت التهمة الى نقيضها.

أهمية التراث القومي: ان التشبع بالتراث القومي لا يعني مطلقاً العبودية للماضي والتقاليد، ولا يعني فتور روح الإبتكار والتجديد بل يعني العكس تماماً. والواقع ان الذين يفقدون روح التجديد وروح الإبتكار هم الذين لا يفهمون ماضي الأمة وروحها، ولا يفهمون من ذلك الماضي وتلك الروح الا القشور والمظاهر الجامدة.

إن اتصالنا بروح الأمة وتراثها يزيد في اندفاعنا ويقوي انطلاقنا، فلا نكون حائرين لأننا نكون واثقين أن كل شيء فينا سيأتي ملائماً لروح أمتنا. إننا عندما ننطلق من أساس متين هو التشبع بروح أمتنا، ومعرفة واضحة لأنفسنا ولواقعنا، وإحساس صادق بحاجاتنا، لن نكون عرضة لأخذ الأفكار المصطنعة وتقليد الآخرين، وانما تأتي افكارنا طبيعية ومبتكرة لأنها نتيجة لشعورنا الصادق وحاجاتنا الصادقة. إن شعورنا بهذه الصلة القومية العميقة بأمتنا هو الذي يفتح عيوننا على حاضرنا الأليم وهو الذي يرينا التناقض بين واقعنا وحقيقتنا، وهو الذي يحملنا مسؤولية إنقاذ الأمة وبالتالي هو الذي يوصلنا الى الإنقلاب.

الصلة القومية تقود الى الإنقلاب وتساعد على تحقيقه : إن الصلة القومية التي توصل الطليعة والأمة الى التفكير الإنقلابي هي نفسها التي تساعد أكبر مساعدة على تحقيق هذا الإنقلاب. لأننا بانقلابيتنا نمثل إرادة الأمة كلها، وهذه الارادة التي لم تتوضح بعد إلا عند القليل، والتي لا تزال مبهمة عند الكثيرين نعرف انها متمثلة قي حركتنا، ونعرف ان كل خطوة نخطوها ستلاقي صدى في النفوس وستحرك وتراًًً ًحساساً، وان كل يوم يمر علينا في نضالنا سيفتح عقولاً جديدة ويوقظ نفوساً جديدة. وبما اننا بنينا انقلابيتنا على صفتنا العربية، وانطلقنا الى المستقبل بنسبتنا الى أصلنا، فاننا حتماً سنتكلم اللغة التي يفهمها الشعب وحتما سنجد سبيلا الى سمعه وقلبه.

الإنقلابيون صورة سباقة لمجموع الأمة : إننا نعرف بأن هذه الفئة القليلة من الإنقلابين الذين تضمهم حركة البعث العربى هم قلة في الظاهر، قلة في البدء، ولكن صفتهم القومية الصادقة تجعلهم صورة مصغرة وسباقة لمجموع الأمة. نحن نمثل مجموع الأمة الذي لا يزال غافيا منكراً لحقيقته ناسياً لهويته، غير مطلع على حاجاته، نحن سبقناه فنحن نمثله، لذلك بيننا وبينه تجاوب عميق، حتى عندما نتصارع، حتى عندما يبطش بنا، هو منسجم معنا لأن طريقه هو طريقنا الآن، وإن لم يدر في الوقت الحاضر فسيعلم ذلك في المستقبل. إنما إيماننا مختلف عن الإيمان السحري لأنه مبني على أرسخ قواعد العلم، على الوقائع. هذه العقيدة هي اننا نمثل مصلحة الأمة وإرادتها، إذن نعتمد على تأييدها، وهذا التأييد الذي هو في حالة الكمون سينتقل الى حالة الظهور والفعل.

 

فقوانا ليست هي هذه القوى المنظورة المحدودة، قوانا لا حد لها في غزارتها. وأضيف أننا نعتمد على قوة أخرى هي أن حركتنا في اتجاه التقدم الإنساني. فهدفها ان ترتفع بالأمة من حالة التأخر الى حالة العمل والجد والإبداع، والتاريخ هو في هذا الإتجاه ونحن نمشي باتجاهه ومنطق التاريخ يقضي بأن تنهض الأمة العربية وأن تحتل مكاناً خلاقاً ايجابياً، وأن تقوم بدورها وتنشىء، فالتاريخ ايضاً يساعدنا.

 

هناك عدد كبير في أمتنا اصبح فاقد السيطرة على نفسه وعلى رأيه ونضارة شعوره، استعبدته المصالح وجمدته الإعتبارات الإصطلاحية، ففقد الحركة الحيوية اللازمة لكي يتمرد على المصالح الخاصة، لكي يتمرد على الإعتبارات الإجتماعية الكاذبة، لأن كل تمرد من هذا النوع يهدده في مصالحه ونفوذه ووجاهته، وهو يستمد وجوده من هذه الأوضاع والإعتبارات الزائفة لأنه لا يؤنس في نفسه القدرة على التحرر من مصالحه، فهو ينظر الى الأمة بمنظار نفسيته، ويرى الأمة على شاكلته عاجزة عن التحرر والتمرد على واقعها كما هو عاجز على التمرد على واقعه. فأعداء الفكرة الإنقلابية في بلادنا أو الذين يتمنون ولا يستطيعون السير في طريقها، هم أنفسهم أعداء القومية العربية. فلو كانت هذه الصلة حية لانتفضوا وشعروا بألم الواقع وبعار الحاضر، ولشعروا بالمسؤولية المترتبة  عليهم من ضرورة تبديل هذا الحاضر بصفتهم جزءاً من هذه الأمة، ولاستطاعوا بالتالي ان يبدلوا نفوسهم وواقعهم ويتمردوا على مصالحهم.

صراع بين معسكرين، والظفر للإنقلابيين : عندما تتصارع فكرتان في حياة الأمة، فكرة جامدة بالية وفكرة جديدة حية، عندما ينشطر المجتمع الى معسكرين ،أحدهما يدافع عن القديم والجمود والمصالح الخاصة والثاني يدافع عن القيم الجديدة، عن التجرد والمثالية، التجرد والتضحية، يكون هذا الإنقسام في الأمة شكلياً وموقتاً في الواقع، لأن نفس المعسكر القديم المدافع عن الجمود والمصالح الخاصة فيه بذور إمكانيات نشوء الفكر الجديد، فكأن المعسكر الثاني هو التجسيد والتوضيح لهذه البذور والإمكايات الخيرة والكامنة فيه، وكأن معسكر الجمود والنفعية والمحافظة في صراعه مع المعسكر الثاني انما يصارع نفسه ويغلبها، ويتصارع مع غرائز الخير والحياة فيه لكي تستيقظ هذه الغرائز الخيرة ولكي ينميها الصراع ويقويها ويسمح بتفتحها الكامل. إن الحركة الإنقلابية في حيويتها وعنفها وصبرها وإيمانها، هي التي تتمكن اخيراً من إيقاظ وتحقيق هذه الإمكانيات الموجودة في نفس كل عربي. بهذا المعنى نستطيع أن نثق ونؤمن بأن معركتنا ظافرة لأن كل يوم يمضي عليها يضيف الى جيشها جنوداً أيقظهم صبرها واستمرارها وإشعاعها وأرجعهم الى نفوسهم، أي الى الصف النضالي الإنقلابي.

إن حركتنا إنقلابية عربية وقد بينا العلاقة بين الإنقلابية والصفة القومية وقلنا أن انقلابيتنا  تنبع من صلتنا القومية وشعورنا بفقر الواقع وفساده وضرورة تبديله والقيام بانقلاب يرجع الى الأمة حقيقتها ويظهر كفاءتها الحقيقة وروحها وأخلاقها، والآن نتساءل عن وسيلة الإنقلاب؟ صحيح أن الإنقلاب فكرة ولكن لا بد لهذه الفكرة من أشخاص يفهمونها ويؤمنون بها ويمثلونها ثم يحققونها. إذن للإنقلاب أدوات حية من البشر هم الذين يعتنقون فكرته ويناضلون في سبيل تحقيقها. وبمقدار ما يكون اعتناقهم للفكرة عميقاً ونضالهم في سبيلها صادقاً، يكون الإنقلاب قوياً كاملاً. فالإنقلاب إذن هو صورة للذين يؤمنون به ويعملون له، وليس هو معجزة تهبط من السماء أو حادثة خارجة عن إرادة البشر وعن أعمالهم. وهذا يؤدي الى نتيجة أولى وهي ان الإنقلاب يجب ان يتحقق أولاً في نفوس الفئة القليلة التي تؤمن به وتبشر به العدد الأكبر، وتعمل على تحقيقه في مجموع الأمة، وكل تساهل في صدق تمثل هذه الفضائل في نفوس الإنقلابيين يهدد الحركة بالفشل والزيف. ولا يعقل أن نطلب من الأمة أن ترتفع الى مستوى لا نكون نحن قد بلغناه، ولا نكون قد برهنا للآخرين بأنه قابل البلوغ.

لا انقلاب بدون صراع : لاشك ان الغرض الظاهر للإنقلاب هو إزالة الأوضاع المصطنعة المفروضة على الأمة والتي تشوهها سواء أكانت هذه الأوضاع سياسية أو إجتماعية أو إقتصادية. ولكن الأوضاع تتمثل في أشخاص، وهي عبارة عن عقلية أشخاص ومصالحهم وعاداتهم، يألفون هذه الأوضاع ويحرصون عليها، ويدافعون عنها، فلا يمكن محاربة هذه الأوضاع الا من خلال الذين يتمسكون بها، ويستفيدون منها. إذن حركة الإنقلاب لا بد ان تهز كل الذين يستسلمون للأوضاع الفاسدة، ولا بد أن تعاكسهم، حتى تخلق في الأمة رد فعل للمرض عندما يستيقظ الفكر الحر والخلق القويم وتستيقظ الروح السليمة. فالإنقلاب ليس له الا معنى واحداً واضحاً صريحاً هو الصراع والمعاكسة للعقلية والخلق والمصالح السائدة، والبعث يولد من هذا الصراع.

 

وان الذين يحسبون أن مجرد تبديل في الأوضاع السياسية يوصل الأمة الى هدفها يخطئون أيما خطأ، فلو فرضنا ان الأوضاع السياسية في البلاد العربية تغيرت فجاة بفعل صدفة من الصدف، فنعتقد أن هذا التغيير لن يتناول الا الظواهر، لأن الأمة لم تقطع بعد مرحلة الصراع الذي يحرر فكرها ويقوم خلقها ويزيل التشويه عن روحها. فالواقع الفاسد ليس شيئاً مادياً متجسماًَ في الأوضاع السياسية أو الإجتماعية فحسب، وإنما هو شيء معنوي يشترك فيه الجميع بنسب مختلفة، ويمكن القول ان كل فرد يحمل اثراً من آثار هذا الواقع. فالفرد الإنقلابي هوالذي يصارع هذا الواقع في نفسه قبل ان يصارعه في المجتمع والأوضاع المادية. وان كل الذين لا يصارعون الواقع، ويحيون حياة طبيعية هادئة مريحة هم ضمن الواقع الفاسد الذي يجب أن نحاربه، إذ لولم يكونوا منه لوجب ان تتحول حياتهم الى ألم ونضال.

وأضيف ملاحظة أخيرة وهي أن مجتمعنا المتأخر المريض يعني وجود أكثرية ضعيفة جاهلة مستعبدة لا تقدر مسؤولياتها ولا تعي وجودها على حقيقته، لذلك تبقى الأقلية هي التي يمكن أن يتوفر فيها الوعي والشعور بالمسؤولية، وهذه الأقلية هي التي تنقسم في الواقع الى معسكرين : المعسكر الإنقلابي، والمعسكر النفعي والمعاكس لكل تجدد ولكل تبديل عميق في حياة المجتمع. فالمشكلة في مجتمعنا إذن هي مشكلة القيادة، مشكلة الأفراد الذين تتوفر فيهم الشروط لقيادة المجتمع. واذا كان مجتمعنا ما زال متأخراً حتى الآن فلأن هؤلاء الأفراد لا يحققون في أنفسهم الشروط الفكرية والأخلاقية والروحية اللازمة لملء مركز القيادة، والصراع هو بين القادة الصادقين والقادة الكاذبين.

10 ايلول 1950

 

 

الصفحة الرئيسية للجزء الأول