ميشيل عفلق

في سبيل البعث - الجزء الأول


حزب الانقلاب

 


السؤ ال المطروح  للمناقشة الآن يدور حول معنى الحزب، ما هو الحزب وما هي الصورة الصادقة للحزب الذي تحتاجه امتنا. لا اريد ان ابحث في حزب البعث العربي بصورة خاصة ولا اريد ان ادخل في موضوع طويل مفصل عن مبادئ البعث العربي، كل ما  ابغيه من هذا الحديث هو ان احدد بصورة واضحة ومختصرة الفارق الجوهري بين وظيفته في امم اخرى واوضاع مختلفة.

 

في امم العالم الراقية ينظر الى الحزب على انه نموذج للدولة او تصميم لدولة مقبلة او لاصلاح دولة قائمة، فالحزب يتخذ  في مبادئه وفي تشكيلاته واعماله اوصاف الدولة واهدافها. وغاية ما يطمح اليه الحزب في تلك البلاد ان يعد تمام الاعداد جهازا جديدا يستطيع في الوقت المناسب عندما تتوافر الشروط وتحين الفرصة ان يستلم الحكم ويدير الدولة. فهل هذا هو مبتغانا وهل هذا ما نحتاج اليه وهل هذا هو ما يلبي حاجتنا ويسد النقص الذي نشكو منه؟

 

عندما تقوم الاحزاب في البلاد ذات الاوضاع السليمة السوية لا يكون النقص الا في الدولة، ولا يكون هذا النقص في الدولة نقصا فادحا جوهريا خطيرا، فيعمل الحزب في وقت قد يطول وقد يقصر على اعداد الرأي العام لتأييد وجهة نظره ورأيه وعلى اعداد أعضائه والصفوة منهم لكي يستطيعوا عندما يتولون الحكم ان يصلحوا ذلك الخطأ الذي يرونه في الدولة في ناحية او أكثر. والدليل على بقاء الامة سليمة في الدول الاخرى هو ان الأحزاب على اختلافها وتناقضها احيانا يكمل بعضها عمل بعض. ولكن الحزب هناك قلما يتعرض للامة لان الخلل في البلاد ذات الأوضاع السليمة لا يتجاوز الدولة ولا يصل الى الامة، فالامة هناك قائمة وهي شيء حقيقي راهن قوي منسجم للحد الكافي واع لذاته ومصلحته، وانما الخلل في من تولوا ادارة تلك الأمة وفي الجهاز الاداري او ناحية من نواحي ذلك الجهاز.

 

لننظر الان في حالتنا، في حالة الامة العربية، هل النقص والخلل هما في الدولة فحسب، هل كل ما نحتاجه هو ايجاد دولة قوية واعية منظمة؟ ولنتساءل لكي يتوضح الموضوع اكثرمن ذلك، لنتساءل ما هي الدولة؟ الدولة آلة لا اكثر، الدولة جهاز، الدولة جسم لا روح فيه وانما هي آلة مدبرة عاملة لأن المشرفين عليها هم اشخاص أحياء غالبا ما يكونون من ذوي الخبرة والقدرة. وكل ما يطلب من الدولة هو ان تضمن تسيير الافراد وسلامة العلاقات بين الافراد والمواطنين وبين ذلك الشيء المعنوي الذي هو الدولة والممثل في حكومة ومجلس وغير ذلك، فهل اذا تصورنا امكان قيام دولة منظمة في بلادنا نستطيع ان نطمئن الى ان الغاية الكبرى قد بلغت ام هل نستطيع ان نتصور امكان قيام دولة مدبرة ومستقيمة الحالة اذالم يكن ثمة أمة حية منسجمة واعية؟ فالفارق كل الفارق بين حياتنا وحياة الأمم الراقية هو ان ما نحتاج اليه هو معالجة الأمة، وما نقص  الدولة عندنا وكل النواقص الفادحة التي تعتري الدول القائمة في البلاد العربية الا نتيجة لذلك النقص الاساسي الموجود في حياة الأمة. فاذا صح هذا التفكير يكون واجب الحزب ورسالة الحزب الذي ينشا في بلادنا ويعول عليه لتلبية الحاجات العميقة الاساسية ان يعالج الأمة قبل معالجة الدولة، وتكون بالتالي رسالته ان يكون على صورة الأمة المبتغى خلقها او بعثها لا على صورة الدولة، فاذا قامت الاحزاب في بلاد الغرب علي صورة الدولة وكانت تكتفي بالجسم دون الروح فلأن بلادهم لا تتطلب اكثر من ذلك، ولكننا نحن في حالتنا هذه، في وضع الامة العربية الآن، انما نحتاج الى حزب، الى حركة تمثل بالدرجة الاولى عنصر الروح وتخلق عنصر الروح والحياة وتتوفر فيها هذه الروح لتشع منها فيما بعد على المجموع الاكبر، والحزب الحقيقي، الحزب الحي، الذي يمكن ان يؤدي رسالة في العصر الحاضر للامة العربية هو الذي يجعل هدفه خلق امة او بعثها شريطة ان يحقق هذا الوصف في نفسه اولا، اي ان يكون هو أمة مصغرة للامة الصافية السليمة الراقية التي يريد ان يبعثها. ليس غريبا ان نسمع في بلاد العرب من اقصاها الى اقصاها منذ حين وخاصة في الزمن الاخير تتردد كلمة تخرج من افواه البسطاء قبل المثقفين وكانها كلمة السر وكأن فيها العلاج والحل والخلاص هي كلمة الانقلاب.

 

ليس غريبا ان نسمع  ذلك اذا رجعنا الى الماضي والى التاريخ واستجوبناهما عندها نرى حقيقة لاتكاد تكون موضع خلاف وهي ان العرب في تاريخهم الطويل لم يعرفوا غير نوعين من الحياة، الانقلاب والانحطاط، خلافا لكثير من الامم التي عاشت في الماضي ولكثير من الامم التي تعيش في الحاضر، هذه تكاد تكون ميزة او علامة فارقة حقيقية للامة العربية. اما ان تقوم بانقلاب يحدث نهضة تفيض على بلاد العرب وتبلغ الشمول وتصبح نهضة عالمية انسانية واما ان توغل في النوم والانحطاط. فليس من حل وسط في تاريخ العرب، او ما يصح ان يسمى تطورا، في حين اننا نعرف ان تاريخ الامم الاوروبية منذ مئات السنين عبارة عن تطور في أكثره، والانقلاب هو الاستثناء والشذوذ عن القاعدة. فاذا نظرتم الى ما يقاسيه العرب في هذا العصر من المصائب والكوارث التي تتوالى عليهم، وكل واحدة اثقل وافدح من التي سبقتها، اذا تدبرتم هذا الواقع المر الذي نعيش فيه والذي يكاد يوصل الى اليأس واخذتم بعين الاعتبار تلك النظرة التي المحت اليها، وهي ان الامة العربية بطبيعتها لا تعرف حلا وسطا فهي اما ان تعيش على الانقلاب واما ان تعيش في الانحطاط، واذا نظرتم من جهة الى قسوة الواقع ومرارته، ومن جهة اخرى الى تلك الظاهرة التي هي بمثابة قانون، ادركتم ان ايغال العرب فيما يبدو في الظاهر انه تأخر وانحطاط هو عبارة عن تحفز للانقلاب الذي هم مهيأون له.

 

اذا كان الجسم جبارا فافضل له العري من لبس ثوب ضيق، واذا كانت النفس عظيمة الاهداف والغاية فالفقر والعدم اشهى اليها من المادة المتواضعة التي لا تروي رغبتها وعظيم حاجتها. فمصيبة العرب في هذا الدور هو ان الطبقة التي فرضت نفسها عليهم تعيش في طريق معاكس تماما لنفسيتهم وامالهم، فهي طبقة شائخة طبقة فاسدة افسدها الترف، افسدها الاستثمار، أفسدها ظلمها للآخرين، ونفسية الظالم و نفسية المستثمر، نفسية الغاصب هي دوما نفسية شائخة هرمة متعبة لذلك تنظر هذه الطبقة الى ابسط الامور وتحسبها غاية ما يطمح اليه ويرغب فيه  تنظر الى مظاهر بسيطة من التقدم فتقول للشعب، للامة العربية جمعاء، هذا اقصى ما يمكن ان تصلي اليه. عندها تفضل هذه الامة التي اعتادت على احد حالين لا ثالث لهما اما ان تلبس الثوب الذي يوافقها او ان تبقى عارية، اما ان تملك الوسائل التي تساعدها على تحقيق رسالتها في الحياة او تكون فقيرة معدمة، عندها تفضل هذه الامة ان يطول اجل خلاصها من ان تقبل بخلاص مزيف، فاذا قلنا ان الحزب الذي تناديه الامة العربية من اعماقها والذي تدعوه الامجاد العربية من ماضي التاريخ العربي السحيق هو الحزب الذي يجعل الامة غاية له لا الدولة، وان يكون هو امة مصغرة تكون نموذجا للامة الشاملة، اذا قلنا ذلك لا نكون قد ابتعدنا عن الحقيقة اذ كلنا نشعر هذا الشعور، نشعر ان احتياجنا ليس الى اصلاح جهاز الدولة او ترميم خلل موضعي وانما هو الى انقلاب عميق شامل. فاذا كان ذلك صحيحا، اذا كانت هذه الحاجة صادقة فكيف يكون الحزب صاحب الرسالة قادرا على حمل رسالته؟


هو كما قلت ان يكون امة الانقلاب قبل ان يحقق انقلاب الامة وهذا يعني ان هوة سحيقة، ان فارقا اساسيا حاسما قد وضع بين الواقع، بين الحياة الواقعة في بلاد العرب، وبين هذا التكوين الجديد الذي هو الحزب، فرقا جوهريا في النوع، فرقا مطلقا لا يقبل النسبية ولا يتعرف عليها. ان يؤلف الحزب من نوع جديد يختلف في كل شيء عن الواقع الذي نثور عليه ونريد التخلص منه. فامة الانقلاب التي هي الحزب يجب ان تبرهن ليس فقط في الاهداف المكتوبة، ليس فقط فيما تضعه على الورق من برامج ومناهج واساليب التنظيم، بل تبرهن على عقلية جديدة، على روح جديدة، على خلق جديد، لا تجمعه بالواقع الفاسد اية رابطة او جامعة، ان لذلك علائم ودلائل وليس من الصعب ان نلمس الدلائل التي تدلنا على ان هذا التركيب الجديد، هذه الامة المصغرة، هذا الحزب، هو فعلا انقلابي ام انه لا يحمل من الانقلاب الا اسمه وعنوانه. وهذه الدلائل هي ان تتحقق في الحزب نفسه، في اخلاق أعضائه واسلوب عملهم وفي طريقتهم نحو تحقيق اهدافه، ان تتحقق كل الفضائل التي يبغون خلقها في المجتمع المقبل. لا يمكن ان يكون الحزب مماثلا  مشابهامتجانسا مع الواقع الفاسد المريض وان يدعي ان باستطاعته خلق مجتمع  صحيح جديد، فكما اننا نريد ان تكون امتنا في مستقبل قريب امة حية منسجمة حرة طليقة من كل الاعتبارات البالية، يحتل فيها المواطن المكانة التي تؤهله اليها كفاءته وخلقه واخلاصه كذلك يجب ان يكون الحزب الانقلابي محققا لهذه الصفات في تشكيله  وفي اثناء طريقه نحو غايته. اذا لم يكن الحزب الانقلابي مجالا لظهور الكفاءات المخبوءة في الامة، اذا لم يكن مجالا لاحتلال كل فرد حسب ما تؤهله اليه قدرته لا اسمه ولا اسم عائلته، اخلاصه لا وجاهته او وسائله المصطنعة الخارجية، اذا لم يكن الحزب منذ بدئه في طريق النضال قادرا على تحقيق هذه الفضائل التي يدعو الشعب اليها ويسعى الى تحقيقها في الامة فكيف يمكنه ان يحققها في ما بعد؟ لنقل باختصار ان مستقبل العرب متوقف على هذه المرحلة من النضال، فاذا لم نقدر خطورتها التاريخية، اذا لم نكن واثقين من اننا نكتب صفحة جديدة في تاريخنا وفي تاريخ الانسانية فلن نقوى على تحقيق شيء. اما ان نأتي بشيء مبدع خطير يقلب حياة العرب من الذل الى المجد ومن الانحطاط الى الرقي، واما ان تفشل محاولتنا فشلا تاما، لن نعرف الحل الوسط، وقديما قلنا في اكثر من مناسبة ان التطور يعني التأخر واننا لا نستطيع ان نعتنق النظرة النسبية، وان نقول ان هذا الحزب رغم كل اخطائه ونواقصه هو خير من كل الاحزاب الاخرى.

 

هذا لا يمكن ان يسمى مديحا او حسنة اوفضيلة، الفضيلة الحقيقية التي يجوز ان نسميها فضيلة في الحزب هي عندما نقول انه يناقض الاحزاب الاخرى والواقع الفاسد. ان النظرة النسبية تقضي عليه بالعقم، وبالفشل على كل حركة. فنحن اذا وعينا هذه المسؤولية، وهي مسؤولية تاريخية، واذا قمنا بما ترتبه علينا من واجبات نكون اعددنا لمستقبل الامة العربية ليس فقط جنودا محاربين بل افرادا مناضلين، واشخاصا واعين مفكرين. بل اننا نكون اعددنا لمستقبل الامة العربية روحا صادقة اصيلة قوية ذات طاقة تقدر وتستطيع ان تفجر الحضارة تفجيرا، وان تملأ صفحات التاريخ بالابداع في مختلف نواحي الحياة. ولا ننسى ان حضارة العرب في القديم لم تكن ممكنة وما كانت لتتحقق لولا تلك الفترة النضالية التي لم تتجاوز عشرات السنين، ولكنها كانت هي الخميرة الروحية، كانت هي الكنز النفسي الخلقي الذي سمح للعرب فيما بعد ان يتوسعوا وينتشروا ويختلطوا بامم عديدة في جو حضاري مترف ومع ذلك ان يحتفظوا بقوة الابداع وبقوة الخلق.


شباط 1949

 

 

الصفحة الرئيسية للجزء الأول