ميشيل عفلق

في سبيل البعث - الجزء الأول


الدور التاريخي لحركة البعث

 

 

عندما(1) نريد أن نلقي نظرة على تاريخ حزبنا ونفحص فيه مواطن القوة والضعف بكل موضوعية وتجرد نستطيع ان نقول ان حركة البعث تمثل شيئا جديدا في حياة العرب الحديثة في ناحيتي الفكر والعمل، رغم ما انتابها وما يمكن أن ينتابها من نواقص. انها اول محاولة جدية لتحريك القوى الثورية في الوطن العربي ضمن أهداف عربية وطريق عربي مستقل. ولا يمكن لحركتنا أن تدعي انها خلقت القوى الثورية، فالامة العربية تعيش مرحلة ثورية من قبل ظهور حركتنا. ولكن هذه الحركة حاولت أن تعطي الثورة العربية صيغتها الموحدة المنطقية الشاملة، وان تضعها في وقت واحد، في جو العصر الذي تعيش فيه، عصر المذاهب الاجتماعية والاقتصادية، وفي جو الروح العربية الاصيلة. لقد أعطت حركة البعث للعروبة مفهومها الحديث، ومضمونها الايجابي الثوري بعد ان كانت العروبة لفظة فارغة غامضة، واطارا فاقد الروح والمحتوى. وأصبحت القومية العربية مرادفة لحياة الشعب العربي ومشاكله السياسية والاقتصادية والفكرية، وأصبحت تعني في وقت واحد الثورة على التخلف والظلم الاجتماعي، والثورة على التجزئة وفي سبيل توحيد الوطن العربي، والثورة على أمراض المجتمع وعصبياته وامتهان كرامة الفرد والمجموع وفي سبيل الديمقراطية والقيم الإنسانية.

 

لقد قدر لحزب البعث الاشتراكي أن ينقذ الاجيال الصاعدة من الضياع بين العصبية الاقليمية والثورة الاممية ووضعها في صميم العمل التاريخي، عندما وضح لها الحقائق التالية:

 

  1. ثورية المرحلة، وعقم الاعتماد على التطور والاصلاح الجزئي.

     

  2. واقعية الثورة وطابعها الاقتصادي واعتمادها على جماهير الشعب.

     

  3. وحدة الاهداف الثورية وتفاعلها، والتأثير المتبادل للنضال التحرري والنضال الاشتراكي والنضال الوحدوي.

     

  4. شمول القضية، وترابط مصلحة الشعب العربي في جميع اقطاره وضرورة توحيد نضاله.

     

  5. الحرية كأعمق أساس وأقوى دافع، واعتبار القومية صورة حية عن الانسانية، واعتبار الامة مسرحا لتحقيق القيم الانسانية.

     

وبمقدار ما يكون التوضيح العلمي الواقعي للاهداف وللمنطق الذي يربط فيما بينها وللطريق الذي ينبع من هذه الاهداف ويساعد على تحقيقها، بمقدار ما يكون هذا عملية خلق، ويكون حزب البعث قد اسهم في خلق هذا المستوى من التفكير والنضال الثوريين الذي بلغته بعض الاقطار العربية في هذا الوقت.

 

الا ان المساهمة الكبرى لحزبنا في خلق هذا المستوى الثوري الحديث هي نظرته الجديدة الى الوحدة العربية، هذه النظرة التي تختلف اختلافا جوهريا عن كل ما سبقها والتي أخرجت الوحدة من سجن الافكار العامة والألفاظ الغامضة ونفخت فيها الروح والحياة، وفتحت لها طريق التحقيق عندما ربطتها ربطا عضويا بنضال الشعب العربي من أجل التحرر والديمقراطية والاشتراكية. فلأول مرة يظهر مفهوم ثوري للوحدة العربية يحرج الرجعيين والاقليميين والشيوعيين على السواء، يفضح الفئات الحاكمة الرجعية التي جعلت من الوحدة شعارا خادعا لتبرر به خضوعها للاستعمار ومقاومتها للنضال الاشتراكي، كما يفضح الاحزاب التي تقر الوحدة نظريا وتعمل على أساس استمرار التجزئة، كما يفضح اخيرا شعوبية الأحزاب المناهضة للوحدة التي استمرت في عدائها حتى بعد ان أصبحت الوحدة نضالا جماهيريا ثوريا واضح المعالم.

 

ولئن كان حزبنا اول من دعا إلى وحدة النضال العربي وعمل على تحقيقها فأنه أيضا اول من دعا الى نضال الوحدة وحققه فعليا. لقد كان حزب البعث منذ تأسيسه اول من تجاوب مع نضال المغرب العربي وحرك جماهير الشعب لدعم هذا النضال وتقدير أهميته وأثره في المصير العربي كله، كما سعى الحزب دوما لايصال صوته، رغم شتى العقبات، إلى الشباب الثوري في أقطار المغرب، من أجل توسيع أفق نظرتهم القومية واطلاعهم على المفهوم الحديث للقومية العربية.

 

وكان لحزب البعث العربي الاشتراكي دور تاريخي في تحقيق أول خطوة عملية نحو الوحدة العربية أي في تحقيق الوحدة بين سوريا ومصر، هذا الدور تشهد به الوقائع ويشهد به الشعب، ولا تجدي في انكاره والتقليل من شأنه المكابرة ولا المغالطة.

 

بقي ان القول ان المجال الذي قصر فيه الحزب هو البحث الاشتراكي المنظم ووضع نظرية مفصلة للاشتراكية العربية. فلقد كان يكفي الحزب في السنوات الاولى لتأسيسه ان يعلن عن مبدأ استقلال الطريق العربي الاشتراكي، وان الامة العربية تبني لنفسها اشتراكية مستمدة من روحها وحاجاتها وظروفها. الا انه كان من الواجب ان نتجاوز هذه المرحلة الابتدائية ونطور فكرتنا ونعمقها ونغنيها بتجارب البلدان الاخرى. وهذه احدى مسؤوليات البعثيين الرئيسية في المستقبل القريب.

 

أما في السياسة الدولية فقد كان حزب البعث اول من دعا إلى سياسة الحياد بين المعسكرين العالميين، منذ عشر سنوات أو أكثر. وكانت سياسة الحياد التي نادى بها الحزب أكثر من سياسة، اذ انها تتصل بمبادئ البعث وفكرته الاساسية. ففكرتنا منذ البداية تدعو الى حل ثوري جديد لمشاكل العالم، ينطلق من نظرة ايجابية الى الانسان ويخلو من سلبية النظرية المادية وتعصبها وكفرها بالحرية.

 

وحركة البعث تؤمن بالانسانية وبأن للأمة العربية رسالة إنسانية. وهي لا تفصل بين القومية والانسانية، كما انها لا تفصل بين الحاضر والمستقبل، بل تسهر على ان تظهر صورة المستقبل العربي المنشود من خلال الحاضر الذي نبنيه. والمستقبل العربي اما ان يخلص لمبادئ النضال الشعبي فيكون مستقبلا جديدا مبدعا جديرا بحمل الرسالة، واما ان يستخف بهذه المبادئ والمثل ويعتبر انها كانت ضرورية لمرحلة معينة ثم استنفدت أغراضها، فيحمل في طياته بذور نواقص أساسية وانتكاسات جديدة. وفي هذا المجال يظهر الدور التاريخي لحركتنا أكثر من أي وقت مضى. ان فكرة البعث لم توجد لتضع نفسها مقابل الاستعمار وأعوانه وهي ليست جوابا على الاستعمار وأعوانه، بل هي جواب على سؤال تطرحه الامة العربية على نفسها عندما تريد ان تتخذ موقفا تاريخيا من المبادئ والمثل التي تؤمن بها، وعندما تواجه مسؤولية الرسالة التي تنتظرها. ان هذا الجواب الذي أعلنته حركة البعث منذ ظهورها والذي يأخذ في المرحلة الحاضرة أهمية خاصة، هو: اننا نريد ان تكون النهضة العربية عميقة متينة الأسس، غنية الروح، تقدس الحرية وتطبقها وتؤمن بالإنسان وتحترم حريته واستقلاله. نريد أن نجنب النهضة العربية كل أثر ومظهر سلبي يتسرب اليها كعدوى وتقليد للاعداء والامراض التي كنا نحاربها، نريد ان يكون طريق النهضة واضحا مشرقا، ووسائل الثورة نبيلة مثل أهدافها. ونحن لا نستطيع أن نصحح السلبية بسلبية مثلها، بل بمزيد من الاخلاص لمبادئ البعث وباعطاء البراهين الجديدة على ايماننا بالحرية وبجدارة الانسان عامة، والانسان العربي خاصة، بممارسة هذه الحرية.

 

ان امام حركتنا مستقبلا واسعا ومسؤوليات كبرى، فثمة أقطار عربية ما زالت تنتظر ان تدخلها فكرة البعث لتتفاعل مع نضالها وتغنيه، أمامنا أقطار المغرب العربي والسودان وبلدان الخليج العربي والجنوب. وأمامنا اقطار في المشرق العربي يناضل فيها حزبنا نضالا بطوليا ضد الحكام الرجعيين والانتهازيين، وأمامنا الجمهورية العربية المتحدة التي ساهمنا في بنائها كطليعة تقدمية للوحدة العربية، ومازلنا مسؤولين عن تثبيت دعائمها وتعميق ثورتها وتصحيح بعض مفاهيمها.

7نيسان 1960

(1) نص الحديث الذي ألقي في بيروت في احتفال القيادة القومية بالذكرى الثالثة عشرة لتأسيس الحزب. 

 

 

الصفحة الرئيسية للجزء الأول